عاجلمقالات

حسين محمود يكتب: أنت مش عارف بتكلم مين؟

“أنت مش عارف بتكلم مين؟”.. عبارة تحمل في طياتها غرورًا أكثر من حقيقتها، وتهديدًا أكثر من معناها. لم تعد مجرد جملة يتفوه بها مغرور في لحظة غضب، بل تحولت إلى سلوك ممنهج يمارسه البعض ممن يظنون أن المال أو اللقب أو الصورة على “انستجرام” تمنحهم الحصانة فوق القانون.

في الأسبوع الماضي، وقعت ثلاث وقائع منفصلة، بثلاثة وجوه مختلفة، وجميعهم يرفعون ذات الشعار: “أنا ابن فلان.. أنا أعرف علان”. لكن ما جمع بينهم لم يكن فقط الغرور، بل أيضًا الاصطدام بحائط صلب اسمه: وزارة الداخلية.

الحادثة الأولى.. “ابن المستشار” الوهمي

في أحد كمائن القاهرة الجديدة، أوقف ضابط المرور سيارة فارهة تجاوزت السرعة المقررة. لم يكن في الأمر شيء حتى بدأ الشاب ذو النظارة الشمسية في إطلاق سيل من العبارات: “هات رُتبك.. أنت مش عارف بتكلم مين.. أنا ابن المستشار فلان!”. حاول تصوير الواقعة ليقلبها على الضابط، لكنه لم يعلم أن الكمين مزوّد بكاميرات داخلية وثّقت كل شيء، وبعد دقائق كانت قوات الأمن تحيله إلى النيابة، التي اكتشفت أن لا صلة له بأي مستشار، بل هو مجرد طالب جامعي يستخدم اسمًا لا يخصه.

الواقعة الثانية.. “صاحب النفوذ” في مول راقٍ

شاب آخر، دخل أحد المولات الراقية بمنطقة الشيخ زايد، وافتعل مشادة مع موظفة الأمن لرفضها دخوله بسلاح أبيض. هنا تكررت اللازمة المعتادة: “اتصلي بمديرك فورًا.. أنا هكلم فلان يوقفك عن الشغل”. لكن الصدفة شاءت أن تكون الكاميرات الصوتية تعمل بوضوح، لتوثق تهديداته ومحاولته تمرير مخالفة بالقوة. وبدلاً من أن يُوقف الموظفة، وُضع هو في قفص الاتهام.

الحادث الثالث.. “مؤثر سوشيال ميديا” فوق القانون

أما الثالثة، فكانت الأكثر جدلًا. “مؤثر” على منصات التواصل، يمتلك مئات الآلاف من المتابعين، أوقفه كمين أمني بالجيزة بسبب مخالفة في أوراق السيارة. لم يُظهر أي احترام للقانون، بل بدأ في بث مباشر زعم فيه تعرضه للاضطهاد، مصورًا الضابط وكأنه يتعنت ضده. لكن البيان الرسمي الصادر من الداخلية فند الأكاذيب، وأظهر حقيقة الواقعة بالصوت والصورة، وجاء الرد قاسيًا، بإحالته إلى جهات التحقيق بتهمة نشر أخبار كاذبة وإهانة موظف عام.

وزارة الداخلية.. رسائل بلا كلمات

ما يجمع هذه الحوادث الثلاث، ليس فقط توقيتها المتقارب، بل الرسالة الضمنية التي أوصلتها وزارة الداخلية دون شعارات: لا أحد فوق القانون. لا “فلان” ولا “علان”، ولا صاحب محتوى، ولا ابن مسؤول، ولا من يحتمي باسم عائلة أو شهرة زائفة.

القبضة الحاسمة التي تعاملت بها الوزارة تعكس تحوُّلًا كبيرًا في فلسفة تطبيق القانون، قائمة على الشفافية والتوثيق والتعامل الفوري مع أي تجاوز، مع الحفاظ على صورة رجل الأمن كسلطة تنفيذية لا تقبل الابتزاز أو الاستفزاز.

الوجه الآخر لأبناء الذوات المزيفين

من يتحدثون من علٍ، ويلوّحون بالأسماء والنفوذ، لا يمثلون أبناء الطبقات الراقية الحقيقية. فهؤلاء لم يُربَّوا على التكبر، ولم يتعلموا أن يهددوا بسياراتهم أو ألقابهم. بل تعلموا الأدب قبل العلم، والتواضع قبل الشهرة.

أما “الذوات المزيفون”، فهم ظاهرة اجتماعية تستند إلى الواجهة دون الجوهر، إلى الاسم دون السيرة، وإلى الصوت العالي دون منطق. وهم – كما تثبت الوقائع – أول من يسقط عند أول اختبار حقيقي أمام القانون.

ختامًا.. قد يعتقد البعض أن ترديد عبارة “أنت مش عارف بتكلم مين” ستفتح له أبوابًا مغلقة، لكنها في الحقيقة باتت تُغلق عليه باب العدالة، وتدخله من باب القانون من أضيق أبوابه. والدرس واضح: من يتجاوز، يُحاسب.. أياً كان اسمه، أو لقبه، أو عدد ه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى