نصر أكتوبر المجيد ملحمة شارك فيها جموع المصريين بقلوبهم ودعواتهم، ولكن هناك من بدأوا الاستعداد لهذا النصر منذ زمن بعيد، رجال ونساء عاشوا ذل الاحتلال الإنجليزي، وصمدوا أمام العدوان الثلاثي على مدن القناة، وعايشوا حسرة نكسة 67، لم يفكروا في أرواحهم لحظة، فقد بذلوا الغالي والنفيس من أجل الوطن، تاركين أسرهم وأهاليهم ليدافعوا عن بلدهم بعمليات فدائية، غير عالمين إذا كانوا سيعودون أم لا؟ سيعودون أم لا. ولأن حب الوطن لا يفرق بين رجل وامرأة، فقد تنافست النساء في هذا الدور البطولي، وهناك العديد من القصص الوطنية لبطلات من الفدائيات نستعرضها في ذكرى النصر.
آمنة دهشان أول امرأة تستخرج رخصة سلاح
من بين بطولات الفدائيين والفدائيات تبرز آمنة دهشان، ابنة مدينة الإسماعيلية. آمنة هي الابنة الوسطى بين أخواتها، وقد شُهد لها منذ صغرها بالذكاء الشديد والشجاعة وقوة الشخصية، ولدت في 16 نوفمبر 1925، وحفظت القرآن الكريم في سن صغيرة، لم يحالفها الحظ في التعلم بسبب العادات والتقاليد السائدة في ذلك الوقت، خاصة أنها من قرية نائية على أطراف مدينة الإسماعيلية تسمى عزبة أبو دهشان في منطقة السبع آبار الشرقية، مركز أبو صوير، ورغم ذلك، تعلمت القراءة والكتابة، وعاشت طفولتها حتى تزوجت في سن مبكرة عام 1948 من ابن عمها الحاج جمعة إبراهيم دهشان، وأنجبت ابنة و7 أولاد، وعاشت في نفس العزبة، كما روت ابنتها الحاجة زينب جمعة دهشان في حوارها لـ”اليوم السابع”.
وتسرد “زينب” بطولات والدتها قائلة: “بدأت أمي في العمل الفدائي منذ عام 1948، كان الفدائيون يتواجدون في منطقة القنال لإجراء عمليات فدائية مثل تفجير معسكرات الإنجليز، وكانت أمي تأتي لهم بملابس الفلاحين، وتضع التراب على وجوههم ليبدون كأنهم عمال، وعند البحث عنهم من قبل العدو، كانت تقول لهم إنهم عمال يزرعون الأرض، والدي في ذلك الوقت كان يساعدها في إخفاء الفدائيين، وكانت تعد الطعام لهم من مالها الخاص، كما جهزت لهم غرفتين من بيتها لاستقبالهم ومبيتهم، وكانت تقوم بخدمتهم حتى انتهاء مهمتهم”.
استمر عمل آمنة في مساعدة الفدائيين على هذه الوتيرة حتى نكسة 1967، حيث اشتد العمل الفدائي في منطقة القناة. تقول زينب: “بدأت أمي في حمل السلاح، وكانت تخبئه في ملابسها حينًا، وأحيانًا تضعه في عربة نقل الخضار الخاصة بها، ثم توصله إلى الفدائيين من قرية نفيشة إلى منطقة المحطة الجديدة وعريشية العبيد”.
وتضيف زينب: “لم تستطع أمي أن تترك أرض المعركة حتى لو كلفها ذلك حياتها، ورفضت أمي التهجير مع باقي أهالي العزبة، فهجرت أبناءها مع أخواتها إلى مدينة بلبيس، لكنها ظلت مع والدي بالقرب من أرض المعركة، كانت تأتي كل يوم إلى بلبيس لتجهز لنا الطعام وتعتني بنا، ثم تعود إلى الإسماعيلية رغم الخطر الشديد، ولتسهيل مرورها، استخرج لها الحاكم العسكري تصريح دخول مدن القناة بحجة أنها صاحبة أرض زراعية هناك، وخلال هذا الوقت، كانت تساعد الجنود المصريين المتواجدين وتقدم لهم الطعام والدواء وكل ما يحتاجونه حتى انتصارات أكتوبر”.
تختتم زينب حديثها قائلة: “ظلت أمي تحكي لنا عن هذا اليوم حتى وفاتها، كانت تستقبل الجنود المصريين العائدين من النصر بالزغاريد وزعف النخل وثمار البلح، وتستقبلهم في بيتها، تجهز لهم الطعام وتقدم الإسعافات الأولية للجرحى حتى يتم نقلهم إلى أقرب مستشفى، الحاجة آمنة كانت أول امرأة تستخرج رخصة لحمل السلاح في مصر، وأول فدائية في مدن القناة منذ عام 1948. رحم الله الفدائية البطلة آمنة دهشان، ابنة الإسماعيلية.”
فرحانة البدوية
لُقبت بشيخة المجاهدين، سيدة سطرت تاريخها الوطني بحروف من دمها، ابنة قبيلة الريشات بشمال سيناء أم ثلاث أبناء بعد انفصالها عن زوجها اكتفت بأبنائها ووطنها، بدأت مشوارها في الكفاح بعد النكسة مباشرة، فانضمت إلى المخابرات الحربية مثل الكثير من أبناء سيناء في هذا الوقت، وكانت مهمتها رصد تمركزات العدو الإسرائيلي وإعداد دباباتهم وجنودهم، وزرع القنابل ونقل الرسائل من وإلى رجال المقاومة في سيناء. وكان هذا بالشيء السهل لها كونها كانت تعمل في بيع الأقمشة وبسهولة تخرج من سيناء وتعود مرة ثانية.
تميزت فرحانة بالذكاء رغم أميتها فكانت تحفظ بسهولة عدد سيارات العدو وأشكال الرموز المرسومة عليها، كسرت “فرحانة” العادات والتقاليد البدوية وفي إحدى حواراتها الصحفية التي أجرتها قبل وفاتها قال: “سمعت كلاما قاسيا جدًا في بداية جهادى من قبيلتى وعشيرتى، ولكنى لم ألتفت كان هدفى الوحيد هو بلدى مصر”.
ومن أكبر العمليات الاستخبارية التي قدمتها شيخة المجاهدين في سيناء هي الحصول على خريطة المطار الذى خطط العدو الإسرائيلي لبنائه وصورت وثائق لمعسكراتهم بمنطقة ياميت، كما وصلت إلى كامب ديفيد وقامت بتصوير أهم القواعد العسكرية هناك، في كل مرة كانت تنجز مهمة لها كانت ترسل رسالة إلى المجاهدين في سيناء تحفيزًا لهم لاستكمال المشوار، عن طريق إرسال رسالة للإذاعة المصرية لتذاع عبر أثيرها تقول فيها “أنا أم داوود أهدى سلامى إلى إخوانى وإخواتى فى الأراضى المحتلة”.
ولكن هناك من كان يتربص بها فوشي بها إلى القوات الإسرائيلية في سيناء، وتم القبض عليها واحتجازها، وتم إغراؤها لإفشاء مكان قائد مجموعتها وأوهمتهم أنها بلهاء لا تعرف شيئًا، فتركوها، حسب روايتها في أحد حواراتها للصحف قبل وفاتها.
وتم تكريمها من الرئيس الراحل محمد أنور السادات، ومنحها نوط الامتياز من الطبقة الأولى لدورها الكبير فى مساندة القوات المسلحة أثناء حرب أكتوبر 1973.
فردوس فرحات النوبية
فردوس فرحات، السيدة نوبية، تركها زوجها وحدها مع أبنائها لتتحمل مسئوليتهم، مثل كثيرات الآن، ولكن الفرق أن “فردوس” كانت في زمنٍ نادرًا جدًا أن يترك رب الأسرة مسؤوليته، لقد تحملت الزوجة مسئولية ابنها الوحيد “صبحى الشيخ” ورعته وعكفت على تربيته حتى أصبح طيارًا مقاتلًا متطوعا في الجيش المصرى.
شارك المقاتل “صبحى” في حرب أكتوبر وأسقط طائرتين من طراز ميراج، وشعر بالفخر وازداد حماس المقاتلين المنتصرين فاقتحم دشمة رباعية لطائرات العدو بعد أن شاهد طائرات العدو تستعد للصعود، ودفع حياته ثمن للدفاع عن الوطن، وسميت تلك الضربة بـ”ضربة السيطرة 6 أكتوبر 73″.
رد فعل الأم من أجل وحيدها أذهل الجميع فقالت للضابط الذى أتى ليخبرها بشهادة ابنها: “ابنى حقق اللى كنت بتمناه، كان يدعو كل صلاة، وكان عايش وحيد لكن ربنا كان معاه، كان ناجح ومتوفق في دراسته، ولما كان يعمل أي عمل عسكري يرجع يقولى، ربنا رفض يكرمنى بالشهادة، كنت أقوله هتسيبنى لوحدى، كان يقولى ربنا مش هيسيبك إذا أكرمنى وقبلنى من الشهداء”.
وكُرمت أم الشهيد البطل، حيث وقف القائد الأعلى للقوات المسلحة، ورفع أمامها يده بالتحية العسكرية، وأطلق على ولدها “صبحى الشيخ” واحد من أصحاب القدرات المدهشة أثناء الحرب وحُماة مصر.
وتمتلئ السجلات المصرية بأسماء أبطال يحملون قصص النصر، تداولت حكاياتهم من جيل لجيل، ولكن هناك الكثير والكثير منهم سالت دمائهم وأبتلعت رمال سيناء أجسادهم مخبئين معهم أسرار النصر.