
في كل مرة تُعلن فيها إدارة ترامب عن حزمة جديدة من الرسوم الجمركية الأمريكية، يبدو الأمر كما لو أن الولايات المتحدة تعيد تعريف معنى “الضريبة” – ولكن من الباب الخلفي.
فبدل أن يُصوّت الكونجرس على فرض عبء جديد، تُفرض الضرائب بشكل غير مباشر، متخفية في زيّ “حماية الاقتصاد”، بينما الضحية الحقيقية هو المواطن الأمريكي العادي الذي يدفع الثمن في كل فاتورة تسوّق، وكل صيانة منزلية، وكل علبة حليب مستوردة.
اللافت في سياسة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، أن هذه الرسوم الجمركية الأمريكية ليست فقط جزءا من صراع جيوسياسي، بل تعبير عن عقيدة اقتصادية تعود إلى ما قبل العولمة، عندما كان يُنظر إلى الدولة القوية بوصفها قلعة تحمي أسواقها بالجدران الجمركية.
لكن في عصر الاقتصاد الشبكي، أصبحت تلك الجدران أشبه بـ”قلاع رملية” تحاول الصمود في وجه موجات السوق العالمي.
أشارت مجلة «تايم» الأمريكية، إلى أن تلك الرسوم الجمركية الأمريكية ليست مجرد أدوات ضغط على الخارج، بل أصبحت جزءا من إستراتيجية داخلية لإعادة تشكيل الولاءات الاقتصادية.
فترامب، بذكاء سياسي، يستخدمها (الرسوم الجمركية الأمريكية) لإرضاء ناخبيه الصناعيين في حزام الصدأ، رغم أن الكلفة النهائية ترتد على قاعدة أوسع من الأمريكيين، وتحديدًا على الأسر العاملة التي تواجه ارتفاعات مفاجئة في أسعار السلع الأساسية.. أي على المواطن الأمريكي نفسه.
وما هو أعمق من ذلك، أن هذه السياسات تفتح بابًا لسؤال سياسي حساس.. هل الدولة الأمريكية أصبحت تفرض الضرائب دون نقاش ديمقراطي؟ وهل أعادت إدارة ترامب هندسة العلاقة بين الدولة والمواطن الأمريكي، بحيث يدفع الناس الثمن مقابل “قومية اقتصادية” لا أحد استشارهم بشأنها؟
وفي هذا التقرير، نسلّط الضوء على تحليل الأثر الاقتصادي العميق لسياسات ترامب، لنكشف كيف تتخفى الضرائب خلف ستار الوطنية/ وفقًا لمجلة «تايم» الأمريكية.
وفي السطور التالية، نُميط اللثام عن كيف تحولت الرسوم الجمركية الأمريكية من أداة لحماية الاقتصاد الأمريكي إلى عبء يثقل كاهل الأسر الأمريكية، ومن سلاح في الحرب التجارية إلى أداة ضغط داخلي تُغيّر حياة المواطن الأمريكي من رفوف البقالة حتى أسعار المنازل.
ضريبة خفية تضرب كل زاوية في الاقتصاد
قال جوش ستيلواجون، أستاذ الاقتصاد ورئيس قسم الاقتصاد في كلية بابسون، إن التأثير سيكون واسع النطاق: “كل شيء في الاقتصاد الأمريكي سيتأثر، سترتفع الأسعار على الفور، وسيدفع المستهلكون الفاتورة بمجرد أن يضطر تجار التجزئة إلى شراء المنتجات الجديدة”.
بمعنى آخر، الرسوم الجمركية الأمريكية لا تبقى في الموانئ… بل تصل مباشرة إلى جيب المواطن الأمريكي.
«الضريبة ليست بالتساوي».. من الأكثر تضررًا؟
رغم أن الرسوم الجمركية الأمريكية تطال السوق الأمريكي بأكمله، إلا أن العبء الأكبر يقع على كاهل الأسر ذات الدخل المحدود.
فهؤلاء يخصصون جزءًا كبيرًا من دخلهم للضروريات الأساسية مثل الطعام، الطاقة، ومنتجات النظافة اليومية.
أشار جوستافو فلوريس-ماسياس، أستاذ السياسات العامة في جامعة كورنيل الأمريكية، إلى أن حتى “الزيادات الطفيفة في الأسعار” يمكن أن تُشكل ضغطًا كبيرًا على هذه الفئات، لأنهم ببساطة لا يملكون هامشًا كافيًا للمناورة المالية.
وبالنسبة للسلع مرتفعة الثمن، كالمركبات المستوردة، يصبح التفاوت الطبقي أكثر وضوحًا، فبينما يستطيع أصحاب الدخول المرتفعة استيعاب زيادة تصل إلى آلاف الدولارات، يجد محدودو الدخل أنفسهم خارج سوق الشراء.
فيما أوضح ديبانجان تشاترجي، نائب الرئيس في شركة “فورستر”، أن “هذه الرسوم الجمركية الأمريكية تُعد ضريبة رجعية”، أي أن أثرها يكون أشد على من يملكون أقل.
ماذا عن الوظائف؟
تأثير الرسوم الجمركية الأمريكية لا يتوقف عند الأسعار، بل يمتد إلى سوق العمل.
ورغم وعود ترامب بإعادة التصنيع إلى الداخل الأمريكي، إلا أن الواقع قد يكون أكثر تعقيدًا.
وإذا بدأت الشركات في تقليص أرباحها أو تعديل سلاسل التوريد لتفادي التكاليف الجديدة، فقد تشهد الولايات المتحدة موجة من تسريحات الموظفين، وخاصة في القطاعات الأكثر هشاشة.
وحذر فلوريس-ماسياس: “العمال ذوو الدخل المنخفض غالبًا ما يكونون أول من يفقد وظائفه، لأنهم الأقل حماية في سوق العمل”.
هل هناك مكاسب محتملة؟
قالت الخبيرة الاقتصادية سوزان هيلبر، والتي عملت سابقًا في البيت الأبيض، إن هناك نظريًا حالات قد تؤدي فيها الرسوم الجمركية الأمريكية، إلى رفع الأجور… لكن هذا ليس السيناريو المرجّح هنا.
وأضافت: “إنشاء مصنع جديد وتحقيق الأرباح منه قد يستغرق سنوات، والشركات ببساطة لا تملك الثقة الكافية في استقرار هذه السياسات الجمركية طويلة المدى لتُقدم على مثل هذا الاستثمار”.
ما الذي سيتغيّر في سلة تسوّق المواطن الأمريكي؟
الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة تشمل واردات من معظم الشركاء التجاريين لـ الولايات المتحدة، ومع اعتماد المستهلك الأمريكي على منتجات أجنبية في معظم تفاصيل حياته اليومية، فالمتأثرون كُثر.
من الفواكه والخضراوات إلى الهواتف الذكية، ومن مستلزمات الصيدلية إلى الملابس الجديدة أو قطع غيار السيارات – كلها في دائرة الخطر.
وبحسب ستيلواجون، توقيت ارتفاع الأسعار سيعتمد على حجم المخزون المتوفر، لكن في بعض الحالات، ستشهد الولايات المتحدة قفزات فورية في الأسعار، خاصة للسلع سريعة التلف، يليها ارتفاع تدريجي في الإلكترونيات، والأجهزة المنزلية، والملابس، وحتى الأحذية خلال الأسابيع القادمة.
كيف تضرب الرسوم الجمركية الميزانيات الهشة؟
كشف جون بريولت، نائب رئيس السياسات العامة في الرابطة الوطنية للمستهلكين بالولايات المتحدة الأمريكية، عن أن الأسر ذات الدخل المنخفض قد تخسر ما يقارب 980 دولارًا سنويًا نتيجة سياسة الرسوم الجمركية الأمريكية التي تم الإعلان عنها في 2 أبريل، وذلك وفقًا لتحليل صادر عن مختبر الميزانية في جامعة ييل الأمريكية.
وأوضح أن التأثير سيكون واضحًا على قطاعات مثل الملابس والمنسوجات، حيث يُتوقع أن تقفز أسعارها بنسبة 17%.
منزل المواطن الأمريكي.. ضحية غير متوقعة للرسوم الجديدة
أما الراغبون في شراء منازل جديدة، فربما عليهم إعادة التفكير في التوقيت، حيث توقعت جمعية بناة المنازل الوطنية بأمريكا، أن تزيد الرسوم الجمركية الأمريكية على مواد البناء من تكلفة المنزل الجديد بنحو 9200 دولار، وهو ما يُظهر مدى اتساع تأثير هذه السياسات على الحياة اليومية للمستهلك الأمريكي.
حلول لتفادي الانهيار المالي.. «خبراء يُجيبون»
وعلى غرار الرسوم الجمركية الأمريكية التي فرضها ترامب خلال الآونة الأخيرة، حذر الخبراء من أن تحويل سلاسل التوريد نحو الإنتاج المحلي بالولايات المتحدة لن يكون أمرًا سهلاً أو سريعًا، فبعض المنتجات، مثل الموز أو القهوة، ببساطة لا يمكن إنتاجها محليًا بالكميات المطلوبة، وحتى في حال تصنيع بعض السلع داخل البلاد، سيظل التضخم شبحًا حاضرًا.
كما حذر ستيلواجون قائلاً: “إن الخوف الحقيقي هو أن هذه لن تكون مجرد زيادة مؤقتة في الأسعار”.
وفي هذا السياق، رأت سوزان هيلبر، المستشارة الاقتصادية السابقة في البيت الأبيض، أن المستهلكين قد يتحملون تكاليف منتجات معينة كالـ”قهوة”، لكنهم قد يغيرون عاداتهم الشرائية تجاه سلع أخرى، وأضافت مازحة: “إذا كان كل ما تريده هو الكافيين، فربما تتحول إلى الكوكاكولا!”.
وينصح الخبراء بالولايات المتحدة، المستهلكين بأمريكا بالتحضير، ولكن بـ«عقلانية»، حيث قال ستيلواجون: “إذا كنت تشتري منتجًا بشكل متكرر، قد يكون من الحكمة تخزينه الآن”، لكنه يُحذر في الوقت نفسه من الشراء بدافع الذعر، كما حدث مع بداية جائحة كوفيد-19.
وأوضح بريولت، أنه من المهم التخطيط لتخزين السلع بطريقة صحيحة لتفادي الهدر، مستشهدًا بمثال فكاهي: “لا تريد أن ترمي كيس روبيان وزنه 20 رطلاً بعد أسابيع قليلة لأنه فسد”.
وأشار الخبراء أيضًا إلى بدائل تساعد في مواجهة هذه الموجة، مثل شراء المنتجات المستعملة أو المجددة، أو البحث عن العلامات التجارية العامة الأرخص، أو حتى زراعة الخضروات في المنزل.
فيما شدد تشاترجي، على ضرورة تغيير نمط الاستهلاك قائلاً: “هذه ليست أزمة مؤقتة، قد تستمر إلى أن تأتي إدارة أخرى وتغير السياسة التجارية، لذلك، لا تتصرف وكأنها عاصفة ستنتهي بعد أسبوع”.
خدعة «التضخم الانكماشي»
من الحيل التي قد يستخدمها المصنعون لمواجهة الرسوم الجمركية الأمريكية، وفقًا لـبريولت، ما يُعرف بـ«التضخم الانكماشي»، حيث يتم تصغير حجم العبوة أو كمية المنتج دون خفض السعر.
ولتفادي الوقوع في هذا الفخ، يُنصح المستهلكون بمقارنة سعر الوحدة (مثل سعر الأونصة أو الجرام) عند التسوق، خاصةً في ممرات البقالة، فبهذا الشكل، يمكن اكتشاف الفروقات الفعلية في الأسعار..