يبدو أن القضاء الدولي، بات كابوسا في رأس الحكومة الإسرائيلية، وعلى رأسها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وذلك في أعقاب مطالبة المحكمة الجنائية الدولية، بإصدار مذكرة اعتقال بحقه، وذلك على خلفية الانتهاكات المرتكبة، في قطاع غزة، منذ أكثر من 7 أشهر كاملة، مما أسفر عن مقتل آلاف الفلسطينيين، معظمهم من النساء والأطفال، وهو ما يمثل ضغطا متزايدا على مسؤولي الدولة العبرية، والتي تواجه معركة قضائية أخرى، أمام محكمة العدل الدولية، في ضوء الدعوى المرفوعة ضدها من قبل جنوب أفريقيا، والقرارات التي تم اتخاذها من قبل دول أخرى، وعلى رأسها مصر، بالانضمام إليها، وهو ما يعكس المأزق الذي تواجهه تل أبيب، في اللحظة الراهنة.
وبين المحكمة الجنائية الدولية، ومحكمة العدل، ثمة العديد من المفارقات الملفتة للانتباه، فالأولى متخصصة في محاكمة الأشخاص العاديين، الذين يتمتعون بحصانة داخل دولهم، بينما تبقى متخصصة في ثلاثة جرائم فقط، وهي الإبادة الجماعية، وجريمة الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وفقا لما ينص عليه ميثاق روما الأساسي المؤسس لها، بينما تعمل محكمة العدل، في محاكمة شخوص المجتمع الدولي، والمتمثلة في الدول، وكذلك الفصل بينها، فيما يتعلق بما ترتكبه، من أعمال، تمثل تهديدا للسلم والأمن الدوليين، وهو ما يمثل في جوهره، امتدادا للدور الذي تلعبه الأمم المتحدة، باعتبارها جزءً لا يتجزأ من مؤسساتها، التي تعمل على تحقيق أهدافها، طبقا للميثاق، وهو ما يعكس حقيقة مفادها أن إسرائيل ومسؤوليها، بل وداعميها الدوليين باتوا في حرج شديد أمام العالم في اللحظة الراهنة.
وفي الواقع، يمثل قرار المحكمة الجنائية الدولية، حصارا قضائيا على إسرائيل، أو بالأحرى “كماشة” قضائية، في ظل وضع مسؤوليها تحت طائلة القضاء الدولي، في الوقت الذي تواجه فيه الدولة العبرية، باعتبارها القوة القائمة بالاحتلال، مصير الإدانة الدولية، في ظل رفضها الامتثال للإرادة الدولية، وهو ما تكرر في العديد من المشاهد منذ بدء العدوان، سواء في تعنتها فيما يتعلق بوقف إطلاق النار، أو رفضها تمرير المساعدات الإنسانية، ناهيك عن استمرارها في انتهاك المقدسات الدينية، وكذلك مماطلتها في تحقيق الشرعية الدولية القائمة على حل الدولتين، وتأسيس الدولة الفلسطينية المستقلة.
وهنا أصبح القضاء الدولي، بمثابة أحد الآليات الهامة، للانتصار لحقوق الفلسطينيين، على مسارين متوازيين، أولهما سياسيا، عبر تحقيق حلم الدولة المنشودة، بعد عقود طويلة من الكفاح، خاصة وأن استمرار الاحتلال بات السبب الرئيسي في حالة عدم الاستقرار الإقليمي، وهو ما يمكن تحقيقه، عبر محكمة العدل، بينما يرتبط المسار الآخر بتفعيل مبدأ المحاسبة، والذي يعتمد فكرة ملاحقة المذنبين، من المسؤولين الإسرائيليين، الذين تمادوا في ممارسة العديد من الانتهاكات منذ بدء العدوان، بدءً من استهداف المدنيين، مرورا بقصف المستشفيات ودور العبادة، وحتى منع مرور المساعدات في إطار محاولات تجويع سكان غزة، وهي الممارسات التي أسفرت في نهاية المطاف عن سقوط آلاف الضحايا، وهو ما يمثل انتصارا لأرواح الضحايا الذين قتلوا دون ذنب اقترفوه.
والحديث عن الانتهاكات الإسرائيلية، والتي من المقرر أن تنظر فيها المحكمة الجنائية الدولية ضد نتنياهو وأعضاء حكومته من المتطرفين، نجد أن ثمة جريمة إبادة جماعية تورطوا بها، تحمل العديد من الأشكال، منها الجرائم المذكورة سابقا (القصف العشوائي، واستهداف المدنيين، والتجويع)، والتي تحمل في مجملها أهدافا أخرى تقع تحت مظلة جريمة الإبادة نفسها، بحسب القانون الدولي، وهي تهجير السكان من أراضيهم، حيث يتم تعريفها على أنها ممارسة ممنهجة تنفذها حكومات أو قوى عسكرية بهدف إخلاء منطقة جغرافية معينة، لإحلال سكان آخرين بدلا عنهم، وهو الأمر الذي يحاول الاحتلال تحقيقه من أجل تصفية القضية الفلسطينية، عبر تجريد الدولة المنشودة من سكانها، وحرمانها من أحد أهم أركان الدولة وهو الشعب.
ويعد قرار ملاحقة نتنياهو قضائيا بمثابة نقطة فارقة، ليس فقط فيما يتعلق بمستقبله السياسي، أو مستقبل حكومته إثر الضغط الكبير الذي سوف تواجهه جراء الخطوة، في الداخل الإسرائيلي، وإنما أيضا في مستقبل القضية الفلسطينية، في ظل اعتماد القضاء كوسيلة داعمة للشرعية الدولية، خاصة مع فشل الأجهزة الأممية التقليدية في تحقيق أي نجاح يذكر لعقود طويلة من الزمن بسبب سيطرة قوى بعينها معروفة بانحيازها للاحتلال، على مقاليد الأمور داخل أروقة الأمم المتحدة، وهو ما بدا في العديد من المشاهد خلال الأشهر الماضية، أبرزها استخدام الفيتو من قبل الولايات المتحدة، عدة مرات، سواء لتقويض قرارات بوقف إطلاق النار، أو لحرمان فلسطين من العضوية الكاملة بالأمم المتحدة.