
كانت الأمومة رمزًا مقدسًا في مختلف الحضارات، لكن في مصر القديمة، حظيت الأم بمكانة خاصة جعلتها تُكرَّم وتُقدَّس بأشكال متعددة. لم يكن المصريون القدماء يحتفلون بعيد الأم كما نفعل اليوم، لكنهم خصصوا طقوسًا وممارسات دينية واجتماعية تعكس احترامهم العميق للأمهات، وتجسد تقديرهم لدورها المحوري في الحياة.
في هذا التقرير، نستعرض كيف احتفى الفراعنة بالأمومة، ومن هن الأمهات المقدسات في الحضارة المصرية، وكيف أثّرت هذه العقيدة في حياة المصريين القدماء.
أولًا: مكانة الأم في العقيدة المصرية القديمة
في الفكر الديني المصري القديم، كانت الأم رمزًا للحياة والخصوبة والعطاء. وقد جسّد المصريون القدماء هذه القيم في صورة العديد من الإلهات المرتبطات بالأمومة، وأبرزهن:
الإلهة إيزيس: رمز الأمومة والرعاية، حيث جسّدت المرأة المثالية التي تحمي طفلها وتضحي من أجله. وكانت قصة إيزيس وأوزوريس نموذجًا مقدسًا للحب والتفاني، إذ سعت إيزيس جاهدة لإعادة زوجها أوزوريس للحياة، وحمت ابنها حورس حتى أصبح قويًا وانتصر على الشر.
الإلهة حتحور: كانت تُعرف بأنها “أم كل الآلهة”، وارتبطت بالمحبة، والموسيقى، والخصوبة، ورُسمت غالبًا وهي تحمل طفلًا أو تُرضعه، مما جعلها إلهة الأمهات والمرضعات.
الإلهة تاورت: كانت رمزًا للحماية أثناء الولادة، حيث صُوّرت على هيئة فرس النهر تحمي النساء أثناء الحمل والولادة، مما يعكس اهتمام المصريين بحماية الأمهات.
ثانيًا: الاحتفال بالأم في مصر القديمة
لم يكن هناك عيد للأم بشكل محدد كما هو متعارف عليه اليوم، ولكن المصريين القدماء احتفلوا بالأمومة في مناسبات دينية واجتماعية مختلفة، منها:
1- عيد الإلهة إيزيس
كان المصريون يحتفلون بعيد الإلهة إيزيس سنويًا، وهو أقرب ما يكون إلى عيد الأم في العصر الحديث. كانت الطقوس تشمل تقديم القرابين والزهور، وتخصيص أدعية وشعائر دينية تكريمًا لإيزيس، باعتبارها رمز الأمومة والعطاء.
2- تكريم الأمهات في المعابد
كان للأمهات مكانة خاصة داخل المعابد، حيث صُممت العديد من المعابد بنقوش تُظهر الأم تحتضن أطفالها، وتمثل صورة الإلهة إيزيس وهي تُرضع ابنها حورس. هذه الصور كانت تذكيرًا بأهمية الأم في تربية الأجيال الجديدة.
3- الطقوس اليومية داخل الأسرة
كان الأبناء في مصر القديمة يُقدّمون الهدايا والزهور لأمهاتهم تقديرًا لدورهن، وكان هناك طقوس منزلية تدعو لحماية الأم وإطالة عمرها، حيث كان يُكتب على أوراق البردي نصوص تحوي أدعية خاصة بطول عمر الأم وصحتها.
ثالثًا: دور الأم في المجتمع المصري القديم
لم تكن الأم مجرد رمز للحب والعطاء، بل كانت تلعب أدوارًا بارزة في المجتمع المصري، من بينها:
التربية والتعليم: كانت الأمهات مسؤولات عن تعليم أطفالهن القيم الأخلاقية، وكانت الأم المصرية القديمة تعلم أبناءها احترام التقاليد والأعراف.
الطب والرعاية الصحية: كانت النساء المصريات مسؤولات عن تقديم العلاجات المنزلية، وكثير منهن كن يعملن كمعالجات شعبيات يستخدمن الأعشاب والعطور لشفاء المرضى.
الملكات والأمهات الملكيات: كان للأم دور سياسي مؤثر، حيث لعبت العديد من الملكات والأمهات الملكيات دورًا مهمًا في تثبيت حكم الفراعنة، مثل الملكة تيّ، أم الملك إخناتون، والملكة حتشبسوت، التي حكمت بنفسها، ونفرتاري، زوجة رمسيس الثاني، التي كان لها تأثير قوي في البلاط الملكي.
رابعًا: كيف أثّرت ثقافة الفراعنة في احتفالات عيد الأم الحديثة؟
يمكن القول إن تقديس الأمومة في مصر القديمة ترك أثره في المجتمعات الحديثة، حيث استمر احترام الأمهات والاحتفاء بهن في العصور التالية، حتى أصبح لدينا اليوم “عيد الأم” كما نعرفه. وقد كان المؤرخ المصري مصطفى كامل من أوائل الذين أشاروا إلى أهمية إحياء يوم مخصص للأم على غرار ما كان يحدث قديمًا.
كان المصريون القدماء من أوائل الشعوب التي قدّرت الأم وأعلت من شأنها، سواء من خلال المعتقدات الدينية، أو العادات اليومية، أو حتى من خلال تخليد صورها على جدران المعابد.
فالأم في مصر القديمة لم تكن فقط مصدر الحياة، بل كانت رمزًا للحكمة، والحب، والقوة. واليوم، ونحن نحتفل بعيد الأم، نجد أن جذوره تعود إلى حضارة الفراعنة التي علّمت العالم كيف يكون تكريم الأم جزءًا من الثقافة والهوية الإنسانية.