
مع كل موسم رمضاني، تتصدر الدراما المشهد الإعلامي، لتصبح حديث الشارع المصري، لكن رمضان 2025 حمل معه جدلًا واسعًا حول محتوى الأعمال المعروضة، فعلى الرغم من الإنتاج الضخم والتقنيات الحديثة، إلا أن الخبراء والمسؤولين حذروا من تراجع القيم الاجتماعية وغياب الرسائل الهادفة في كثير من المسلسلات.
فهل انحرفت الدراما المصرية عن مسارها الحقيقي؟ وما الحلول المطروحة لإنقاذها من دوامة العنف والإثارة المفتعلة؟ أسئلة يجيب عنها كبار المختصين في محاولة لإعادة التوازن إلى الشاشة الرمضانية.
◄ تشويه صورة المجتمع
قال الدكتور شحاتة زيان، أستاذ علم النفس بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، إن الدراما المصرية شهدت في السنوات الأخيرة طفرة كبيرة من حيث جودة التصوير، والتقنيات الحديثة المستخدمة، وأداء الممثلين المميز، إلا أن هذه العوامل لا تعني بالضرورة أن المحتوى الدرامي يحقق التأثير الإيجابي المطلوب.
وأكد أستاذ علم النفس بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، أن هناك مشكلات جوهرية في الأفكار المطروحة داخل المسلسلات، حيث تسود القيم السلبية في كثير من الأعمال، وتُرسخ نماذج غير واقعية تُشوه صورة المجتمع وتؤثر سلبًا على الجمهور.
◄ غياب التوازن في الشخصيات الدرامية
وذكر «شحاتة» أن هناك خللًا واضحًا في بناء الشخصيات الدرامية، حيث يتم تقديم الشرير وكأنه البطل القادر على انتزاع حقوقه بالقوة، دون إظهار أي أبعاد أخرى لشخصيته، بينما يغيب التوازن بين الخير والشر الذي يعكس الواقع الحقيقي للحياة.
واستطرد أن الشخصيات الأبوية في الدراما تظهر إما كمستبدين يملكون المال والسلطة، أو كمجرد عناصر محايدة بلا تأثير يُذكر، مما يشوه صورة القيم الأسرية.
◄ عنف مفرط ونماذج غير واقعية
وأضاف شحاتة أن العنف أصبح عنصرًا أساسيًا في كثير من الأعمال الدرامية، حيث يظهر القانون وكأنه غائب أو يأتي متأخرًا للقبض على المجرمين بعد أن يكونوا قد سيطروا على الأحداث، مؤكدًا أن هذا النمط يُعزز فكرة أن العدالة تتحقق فقط بالانتقام، مما يُرسخ لدى الجمهور خاصة الشباب فكرة أن القوة هي الوسيلة الوحيدة لاسترداد الحقوق.
وأشار أستاذ علم النفس إلى أن بعض المسلسلات تناولت قضايا اجتماعية هامة مثل الرهانات والمراهنات في كرة القدم، كما في مسلسل “النص”، لكنها لم تعالج القضية بعمق كافٍ، حيث تم تسليط الضوء على المشكلة دون تقديم حلول أو رؤية واضحة للحد من هذه الظواهر.
◄ تطوير مؤسسات الرعاية
أكد شحاتة، أنه خلال 15 عامًا من الإشراف على تطوير مؤسسات الرعاية، شهد عن قرب طبيعة الحياة داخل هذه المؤسسات، والصراعات التي يواجهها الأطفال المشردون واللقطاء الذين لا يملكون أسرًا.
وقد لاحظ أن مسلسل “ولاد الشمس”، رغم أنه تناول قضية هؤلاء الأطفال، إلا أنه قدم صورة مشوهة وغير واقعية عن هذه الفئة، ولم يراع العوامل النفسية والاجتماعية التي تشكل سلوكهم داخل تلك المؤسسات.
أشار شحاتة إلى أن المسلسل استلهم بعض أحداثه من دار “ليلة القدر” في 6 أكتوبر، والتي كانت في وقت من الأوقات بؤرة للفوضى، حيث تحولت من مؤسسة رعاية للأطفال إلى بيئة يسودها العنف والبلطجة.
ونوه أن المشكلة التي وقع فيها العمل الدرامي أنه لم يقدم تحليلًا موضوعيًا لحقيقة هذه المؤسسات، ولم يبرز الجهود التي تبذل لإصلاحها، بل اكتفى بتصويرها كمستنقع للجريمة دون أي رؤية لإمكانية التغيير.
يرى شحاتة أن المسلسل لم يدرس بعمق طبيعة التركيبة النفسية للأطفال المشردين الذين يعيشون داخل هذه المؤسسات، وأن هؤلاء الأطفال يعانون من مشاعر الحرمان، والعزلة، والبحث المستمر عن الأمان، وهو ما ينعكس على سلوكهم.
وتابع: «في الواقع، بعضهم قد يلجأ للعنف، لكنه يكون نتيجة للظروف القاسية التي نشأ فيها، وليس مجرد اختيار للشر كما صوره المسلسل، كان من الأفضل لو قدم المسلسل معالجة أكثر إنسانية توضح كيف يمكن أن يتحول هؤلاء الأطفال إلى أفراد صالحين في المجتمع إذا حصلوا على الرعاية المناسبة».
وذكر «شحاتة» أن أحداث «ولاد الشمس»، يظهر طفلان يتخذان طريق الشر للدفاع عن إخوتهما؛ أحدهما يلجأ للسرقة، والآخر يدخل في صراعات بطولية.
وعلّق أستاذ علم النفس على هذه المعالجة قائلًا: «من غير المنطقي أن يكون الحل الوحيد لهؤلاء الأطفال هو اللجوء إلى العنف أو الجريمة، حيث لا يمكن اختزال النماذج البشرية داخل المؤسسات الاجتماعية في شخصيات متطرفة بين الخير المطلق والشر المطلق، فالحقيقة أكثر تعقيدًا، والأطفال الذين يكبرون في هذه البيئات ليسوا مجرد مجرمين بالفطرة، بل هم ضحايا بحاجة إلى توجيه وإعادة تأهيل».
وتابع: «واحدة من النقاط المهمة التي أغفلها المسلسل، هي العلاقة بين التربية داخل المؤسسات الاجتماعية والمشكلات السلوكية التي تظهر بين الأطفال، عندما يكون هناك تباين كبير في الأعمار داخل نفس الدار، دون وجود إشراف نفسي وتربوي مناسب، فمن الطبيعي أن تحدث ظواهر مثل التنمر، واستغلال القوة، والتسلط بين النزلاء».
◄ اللغة والحوار غير الواقعيين
من أبرز المشكلات التي أشار إليها الدكتور شحاتة، هي طريقة الحوار المستخدمة في المسلسلات، حيث يتحدث الممثلون أساليب مبالغ فيها لا تعكس الواقع الفعلي للبيئات التي يمثلونها، فالصعيدي لا يتحدث بالطريقة المتكلفة التي تظهر في بعض الأعمال، وكذلك سكان المناطق الشعبية لا يتحدثون باللهجة الفجة التي يتم تقديمها في المسلسلات، مما يُفقد العمل مصداقيته.
يؤكد أستاذ علم النفس أن المواطن يتأثر بشكل مباشر بما يشاهده في الدراما، وقد ينفذ بعض السلوكيات التي يراها دون وعي، مثل استخدام العنف، أو تقليد الشخصيات السلبية، ومن أخطر الظواهر التي أصبحت شائعة في الدراما هي تسليع المرأة، حيث يتم تقديمها إما كأداة لإضفاء الإثارة أو كمصدر للمشكلات، دون إبراز نماذج حقيقية للمرأة القوية والناجحة.
◄ مائدة رمضان والاكتظاظ الدرامي
وانتقد عرض هذا الكم الهائل من المسلسلات خلال شهر رمضان، مشيرًا إلى أن هذا الشهر ينبغي أن يكون للتعبد والتأمل، وليس مجرد موسم درامي مكثف، كما يرى أن تقليل عدد الحلقات إلى 15 بدلًا من 30 سيكون أكثر فائدة، حيث يساعد على تجنب الإطالة غير المبررة، ويحافظ على تركيز المشاهد دون ملل.
أشار الدكتور شحاتة إلى أن غياب الرقابة الحقيقية من قبل المؤلفين والمبدعين جعل كثيرًا من الأعمال الدرامية تفتقر إلى الالتزام بالقيم الأخلاقية والمهنية، فالمسؤولية لا تقع فقط على عاتق الجهات الرقابية الرسمية، بل يجب أن يكون هناك وعي ذاتي من صناع المحتوى بضرورة تقديم أعمال تحمل رسالة إيجابية تفيد المجتمع.
◄ اعتزال المخرج محمد سامي
وحول اعتزال المخرج محمد سامي، أكد الدكتور شحاتة أن الدراما لم تتأثر بهذا القرار، حيث يوجد العديد من المخرجين الذين يستطيعون تقديم أعمال بنفس المستوى، وربما بجودة أعلى، إذا تم التركيز على تقديم محتوى هادف بعيدًا عن الإثارة المفتعلة.
هند فؤاد: إنتاج المسلسلات بحثًا عن الترند أفسد رسالة الدراما المصرية
في سياق متصل، ذكرت الدكتورة هند فؤاد السيد، أستاذ علم الاجتماع المساعد بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، أن موسم دراما رمضان 2025 شهد تنوعًا كبيرًا فى الأعمال الفنية ومنافسة قوية بين الكثير من النجوم، منها من قدم قضايا وموضوعات مهمة ومؤرقة للمجتمع على سبيل المثال “لام شمسية” التى تعرض لموضوع التحرش ضد الأطفال، وأعمال أخرى قدمت قضايا بشكل ساخر أو كوميدى تعمل على جذب الجمهور لمشاهدتها.
وأخرى لم تقدم فى محتواها أو لغتها المستخدمة وتعبيراتها أى محتوى هادف، كما لم تعكس الصورة الواقعية للمناطق الشعبية أو الفقيرة أو الريفية التى تعبر عنها، مما أثر على جودة ومحتوى الأعمال الدرامية.
وأضافت «هند»، برغم من غزارة الأعمال الفنية التى تعرض كل موسم رمضانى وليس هذا الموسم فقط؛ فإنها تعبر عن أزمة حقيقية تمر بها صناعة الدراما المصرية، حيث أن هناك فقر معرفى فى الموضوعات والقضايا التى تطرحها الدراما، هذا بجانب كتابة السيناريو الذى لم يعد يكتب باحترافية لجذب الجمهور وبث القيم والأخلاق بمهنية واحترافية، فالجميع شوه المحتوى باللغة الفجة المستخدمة، واستخدام رموز البلطجة ومصطلحاتهم فى الأعمال.
◄ الكوميديا الساخرة غير اللائقة
وتابعت: «هذا بجانب الكوميديا الساخرة غير اللائقة بالأخلاق وبالسياق المجتمعى سواء فى الريف أو فى المدن فكلها مواقف واختلاق الكوميديا بإيحاءات وحركات غير لائقة، بالإضافة لذلك تكرار الصورة النمطية للشخصيات التى تعزز العنف والجريمة والبلطجة، واستخدام حوار هابط يشوه تاريخ الدراما التى لا تعبر عن الواقع الحقيقى وتعكس صورة للعالم الخارجى وأن المجتمع ملئ بالعنف والبلطجة والجريمة وأنه غير آمن على حياة أفراده، كذلك الملابس الفخمة غير المعتادة التى ترتديها النجمات والتى لا تظهر البيئة التى تعبر عنها فى الريف أو فى المناطق الفقيرة والمهمشة فلا توجد مصداقية بين الصورة والواقع».
وأشارت أستاذ علم الاجتماع إلى أن إبراز النجم الذى لا يقهر ولا يموت ولا يعاقب من القانون، تلك الأمثلة من النجوم المشهورة تمثل قدوة يقتدى بيها ويقلدها الأطفال والمراهقين دون الوعى بخطورة ما يشاهدونه ويقلدوه مما يرفع قد معدلات العنف والجريمة بين أفراد المجتمع.
وعبرت نتائج الكثير من البحوث الخاصة بتقييم الدراما التليفزيونية سواء فى موسم رمضان أو غيره التى أجراها المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية بخبرائه متعددى التخصصات عن تلك الأزمة، وأن الدراما المصرية بحاجة ماسة إلى الرقابة على ما يبث ويعرض خاصة فى الموسم الرمضانى لارتفاع نسب المشاهدة فيه. موضحة أن التليفزيون مازال من ضمن الوسائل الإعلامية المؤثرة فى كثير من الأفراد بالمجتمع لذلك فإن غياب الرقابة على الأعمال التى يقدمها تشكل خطورة على القيم والأخلاق فى المجتمع.
وأكدت أن سيطرة القطاع الخاص على إنتاج الأعمال الدرامية واختيار العقول غير المبدعة التى تنفذ رغباتهم فى تحقيق الشهرة والربح والوصول إلى الترند على حساب الرسالة الإعلامية التوعوية أثر على محتوى الدراما بشكل كبير وأخرج لنا الصورة السلبية عن واقعنا المعاش للعالم الخارجى.
واستطردت إلى أن دعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي وتكليفه لرئيس الوزراء بالبحث فى أزمة الدراما المصرية والعودة للأعمال الفنية الهادفة التى تحمل محتوى جيد وتبث القيم الأصيلة للمجتمع المصرى، بالاستعانة بخبراء علم النفس والاجتماع والإعلام المتخصصين، كما أحيي أحمد المسلمانى رئيس الهيئة الوطنية للإعلام لعقد مؤتمر لمناقشة تلك القضية.
◄ مسار الدراما المصرية
وعن تصحيح مسار الدراما المصرية، ذكرت أستاذ علم الاجتماع عدة مقترحات من بينها:
– عودة جهات الرقابة بشكل حازم وفعال على الأعمال الدرامية بداية من كتابة السيناريوهات ومراعاة الألفاظ والمشاهد قبل الإنفاق على الإنتاج، مع تفعيل هذا الدور وإعطائه صلاحيات تنفيذية لضبط الأعمال.
– الاستعانة بالعقول المبدعة الشريفة فى الأعمال الفنية سواء فى كتابة السيناريوهات أو فى الإخراج أو فى التمثيل والبعد عن المحتوى غير الهادف وغير المفيد.
– استبعاد القضايا التى يتحمل مضمونها أكثر من مغزى “السم فى العسل” والتركيز على القضايا الواقعية الاجتماعية الحقيقية ورصدها بشكل احترافى وجذاب.
– الاستعانة بنتائج البحوث العلمية وتوصياتها لتصحيح مسار الدراما والسينما والفن المصرى.