عاجلمقالات

حسين محمود يكتب: حرب لا هوادة فيها ضد الفساد

في ظل التوجيهات الحاسمة نحو مكافحة الفساد وترسيخ مبادئ الشفافية، يبدأ جهاز الكسب غير المشروع، يوم الأحد، تلقّي إقرارات الذمة المالية لموظفي الدولة، وهي خطوة تُعد بمثابة جدار الحماية الأول ضد استغلال النفوذ والتربّح غير المشروع. هذه الإقرارات ليست مجرد إجراءات شكلية، بل تمثل منظومة رقابية مُحكمة تهدف إلى منع تكوين ثروات غير مشروعة على حساب المال العام.

 

إقرارات الذمة المالية.. لماذا الآن؟

تقديم إقرارات الذمة المالية لموظفي الدولة ليس إجراءً جديدًا، لكنه يكتسب زخمًا متزايدًا في ضوء التحديات الاقتصادية الحالية، حيث أصبح من الضروري تشديد الرقابة على المال العام وضمان عدم استغلال المناصب الحكومية لتحقيق مكاسب شخصية.

 

تُشير تقارير الأجهزة الرقابية إلى أن الفساد الإداري والمالي يُعد أحد أكبر المعوقات التي تواجه التنمية، إذ يتسبب في إهدار مليارات الجنيهات سنويًا، وهو ما دفع الدولة إلى اتخاذ تدابير صارمة لضمان عدم استغلال الوظائف العامة لتحقيق مكاسب غير مشروعة.

 

آلية تقديم الإقرارات المالية ومحتواها

يُلزم القانون جميع الموظفين الحكوميين بتقديم إقرارات الذمة المالية عند تعيينهم، وعند كل ترقية أو تغيير وظيفي كبير، وكذلك عند التقاعد. وتشمل هذه الإقرارات تفاصيل دقيقة حول الوضع المالي للموظف، وتشمل:

 

  1. 1. الأموال السائلة والممتلكات العقارية: جميع الأصول النقدية المودعة في البنوك المحلية والدولية، وأي ممتلكات عقارية داخل أو خارج البلاد.

 

  1. 2. الاستثمارات في الأسهم والسندات: سواء كانت في البورصة المحلية أو الأسواق المالية الخارجية.

 

  1. 3. المشروعات التجارية والشركات المملوكة: سواء بشكل مباشر أو غير مباشر عبر أطراف ثالثة.

 

  1. 4. المقتنيات الثمينة: مثل السيارات الفاخرة، المجوهرات، اللوحات الفنية النادرة، وغيرها.

 

  1. 5. أي التزامات مالية أو ديون: لضمان عدم استخدام ديون وهمية لإخفاء أصول غير مشروعة.

 

 

 

كيف تُفحص هذه الإقرارات؟

لا تتوقف عملية تقديم الإقرارات عند مجرد تقديمها للجهات المختصة، بل تمرّ بمرحلة تدقيق صارمة تتضمن:

 

مطابقة البيانات مع الجهات الرسمية مثل البنوك، الشهر العقاري، وإدارات المرور، وهيئة البورصة.

 

استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل نمط الأصول والنفقات الخاصة بالموظف، والكشف عن أي تضخم غير مبرر في الثروة.

 

التحقيق الفوري في أي تضارب بالمعلومات بين ما تم تقديمه وبين السجلات الرسمية.

 

وفي حال الاشتباه في وجود تلاعب أو تضخم غير مبرر في الثروة، يتم إحالة الملف إلى جهات التحقيق المختصة، حيث قد يواجه الموظف عقوبات تتراوح بين الغرامات المالية والعزل من الوظيفة، وصولًا إلى السجن في حال ثبوت التربّح غير المشروع.

 

القضاء على “الثروات المستترة”.. تشديد الرقابة على المحيطين بالموظف

لم يعد التهرب من الرقابة أمرًا سهلًا كما كان في السابق، حيث بدأت الدولة في اعتماد نهج رقابي أكثر تشددًا، يشمل مراقبة ذمم أقارب الموظفين من الدرجة الأولى، مثل الزوجة والأبناء، لمنع نقل الأصول إليهم بطرق ملتوية.

 

إضافة إلى ذلك، هناك تعاون متزايد مع الجهات المالية الدولية لمراقبة أي تحويلات مالية مشبوهة أو امتلاك أصول غير معلنة في الخارج، مما يضع حدًا لظاهرة تهريب الأموال للخارج أو إخفائها تحت أسماء وهمية.

 

عقوبات صارمة للمتلاعبين.. لا إفلات من العدالة

 

في ظل التحديثات المستمرة للتشريعات، تم تشديد العقوبات على أي موظف يثبت تقديمه إقرارًا ماليًا غير دقيق، أو يُخفي أصوله بشكل متعمّد. وتشمل العقوبات:

 

عزل فوري من الوظيفة: لمن يثبت تورطه في تقديم بيانات مغلوطة أو إخفاء ممتلكات.

 

غرامات مالية ضخمة: تصل إلى أضعاف قيمة الثروة غير المبررة.

 

السجن لعدة سنوات: في حال ثبوت استغلال النفوذ لتحقيق مكاسب غير مشروعة.

 

 

دروس مستفادة من التجارب الدولية

 

تمثل هذه الإجراءات امتدادًا لممارسات دولية ناجحة، حيث أثبتت تجارب مثل سنغافورة والسويد أن فرض رقابة صارمة على ثروات الموظفين الحكوميين يقلل من معدلات الفساد إلى مستويات تكاد تكون معدومة. ففي سنغافورة، مثلًا، يُلزم كل مسؤول حكومي بالإفصاح عن ممتلكاته سنويًا، مع فحص دقيق لمصادر أي زيادة غير مبررة في الثروة، وهو ما جعلها واحدة من أكثر الدول شفافية في العالم.

 

نحو منظومة أكثر صرامة: مقترحات لتعزيز مكافحة الفساد

 

لمواكبة التحديات المتزايدة، هناك حاجة لتطوير منظومة إقرارات الذمة المالية عبر عدة مقترحات:

 

  1. 1. توسيع نطاق الإفصاح: ليشمل جميع أقارب الدرجة الأولى، لضمان عدم تمرير الثروات عبر الأقارب.

 

 

  1. 2. الرقابة الإلكترونية المستمرة: من خلال بناء قاعدة بيانات مركزية تتيح للجهات الرقابية مراجعة ثروات الموظفين بشكل دوري.

 

 

  1. 3. تشديد العقوبات على المخالفين: عبر تطبيق عقوبات تصل إلى مصادرة الأصول غير المشروعة، وليس مجرد فرض الغرامات.

 

 

  1. 4. تعزيز التوعية داخل الجهاز الإداري: من خلال تدريب الموظفين على أخلاقيات الوظيفة العامة وأهمية الشفافية المالية.

 

الخلاصة: حرب لا هوادة فيها ضد الفساد

 

إقرارات الذمة المالية ليست مجرد مستندات تُحفظ في الأدراج، بل هي سلاح استراتيجي في المعركة ضد الفساد. نجاح هذه المنظومة يتوقف على الجدية في تطبيقها، والصرامة في محاسبة المخالفين، والتعاون المجتمعي في الإبلاغ عن أي حالات تربّح غير مشروع.

 

إن الفساد لم يعد مجرد سلوك فردي، بل هو معركة وجودية تمس استقرار الدولة، ونجاحها في تحقيق التنمية المستدامة. ولذلك، فإن كل خطوة تُتخذ لتعزيز النزاهة والشفافية تُعد انتصارًا للدولة والمجتمع على قوى الفساد، وركيزة أساسية نحو مستقبل أكثر عدالة ونزاهة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى