
لطالما اعتمدت الولايات المتحدة على قوتها الناعمة كأداة رئيسية لتعزيز نفوذها العالمي، حيث شكلت المساعدات الإنسانية والتنموية التي تقدمها عبر الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) جزءًا رئيسيًّا من استراتيجيتها الدبلوماسية، إلا أن تقليص دور هذه الوكالة خلال إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أثار مخاوف جدية حول تأثير ذلك على مكانة أمريكا العالمية.
فمنذ تأسيسها عام 1961، لعبت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية دورًا حاسمًا في تقديم المساعدات للدول النامية، وتعزيز الاستقرار في مناطق النزاعات، والمساهمة في جهود مكافحة الفقر والأمراض. ومع ذلك، فإن إلغاء أو تقليص دورها يعني خسارة أداة فعالة للسياسة الخارجية الأمريكية، ما قد يمنح منافسين مثل الصين وروسيا فرصة لتعزيز نفوذهم على حساب واشنطن.
سامانثا باور تنتقد إدارة ترامب بشدة
شنت المديرة السابقة للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، سامانثا باور، هجومًا لاذعًا على إدارة ترامب بعد قرار تقليص برامج المساعدات الخارجية، واصفة ذلك بأنه “واحد من أسوأ الأخطاء وأكثرها تكلفة في السياسة الخارجية الأمريكية”.
في مقال نشرته صحيفة “نيويورك تايمز”، أكدت باور أن إنهاء أو تخفيض ميزانية الوكالة يعرض حياة الملايين للخطر، ويؤثر سلبًا على الاقتصاد الأمريكي، كما يقوض الأمن القومي للولايات المتحدة. وأشارت إلى أن وقف برامج المساعدات في العديد من الدول سيفتح المجال أمام روسيا والصين لتعزيز نفوذهما، في وقت تحتاج فيه واشنطن إلى ترسيخ مكانتها عالميًّا.
إلغاء المساعدات: تأثيرات كارثية على السياسة الخارجية الأمريكية
أدى قرار إدارة ترامب، بالتعاون مع وزير الخارجية ماركو روبيو وإيلون ماسك، إلى وقف برامج المساعدات التي تديرها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في العديد من الدول. وكان لهذا القرار تداعيات خطيرة على الأمن العالمي، حيث أدى إلى تعريض حياة الملايين للخطر، حيث كانت المساعدات الأمريكية توفر الأغذية والأدوية الضرورية في مناطق تعاني من أزمات إنسانية حادة، بالإضافة إلى إضعاف الاقتصاد الأمريكي، حيث كانت استثمارات الوكالة تدعم الشركات والمزارع الأمريكية، وتوفر آلاف الوظائف داخل الولايات المتحدة، بجانب تقويض النفوذ الأمريكي عالميًّا، إذ أصبحت الصين وروسيا أكثر قدرة على كسب الحلفاء عبر برامج مساعدات بديلة.
أهمية الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في الأمن القومي
أكدت باور أن برامج الوكالة ليست مجرد مساعدات إنسانية، بل هي أداة استراتيجية تعزز الأمن القومي الأمريكي. فمن خلال دعم المجتمعات في إعادة البناء بعد النزاعات، وتعزيز الاستقرار في الدول الهشة، تساهم الوكالة في الحد من التطرف، وتقليل موجات الهجرة غير الشرعية، ومنع تفشي الأوبئة القاتلة.
ومع ذلك، فإن تقليص دور الوكالة أدى إلى وقف العديد من البرامج الهامة، مثل مراقبة انتشار الأوبئة حيث توقف برنامج مراقبة إنفلونزا الطيور في 49 دولة، مع منع عنف العصابات توقفت البرامج التي كانت تعمل مع الشباب في أمريكا الوسطى لمكافحة الجريمة، وإزالة الألغام والتلوث البيئي، فلم تعد الوكالة تساهم في تنظيف الحقول الملوثة في فيتنام، بجانب مكافحة التطرف، حيث توقفت برامج دعم المجتمعات المحلية في سوريا والمغرب وكازاخستان لمواجهة التطرف الديني.
وترى باور أن الأجيال القادمة ستشعر بتداعيات تفكيك هذه البرامج، لأن تكلفة إعادة بنائها ستكون باهظة، وقد يؤدي غيابها إلى تفاقم الأزمات العالمية.
الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية: رأس المال السياسي المفقود
لم تكن الوكالة مجرد منظمة خيرية، بل كانت تمتلك تأثيرًا سياسيًّا قويًّا في أكثر من 100 دولة، فمن خلال برامجها، تمكنت الولايات المتحدة من بناء شراكات استراتيجية، وزيادة نفوذها في مناطق النزاعات.
على سبيل المثال، كانت المساعدات الأمريكية تساهم في إقناع الحكومات بإرسال قوات حفظ السلام إلى مناطق النزاع، أو دعم الشركات الأمريكية في دخول أسواق جديدة، أو تسليم مجرمين إلى السلطات الأمريكية. ومع إلغاء هذه البرامج، فقدت واشنطن أداة مهمة لتحقيق أهدافها السياسية في الخارج.
كيف استغلت روسيا والصين تقليص الدور الأمريكي؟
مع انسحاب الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية من العديد من الدول، وجدت كل من روسيا والصين فرصة لتعزيز نفوذهما عبر تقديم مساعدات بديلة. ففي العام الماضي، شنت الحكومة الصينية حملة دعائية مكثفة ضد الوكالة الأمريكية، ووصفتها بأنها “أداة للهيمنة الأمريكية”، بينما قامت في الوقت نفسه بتقديم منح مالية واستثمارات في العديد من الدول النامية لتعزيز علاقاتها معها.
أما روسيا، فقد استغلت الفراغ الناجم عن تقليص دور الوكالة لزيادة نفوذها في الشرق الأوسط وأفريقيا، حيث قدمت دعمًا عسكريًّا واقتصاديًّا للدول التي كانت تعتمد سابقًا على المساعدات الأمريكية.
هل يمكن للولايات المتحدة استعادة نفوذها؟
في ظل التغيرات الجيوسياسية الحالية، تواجه الولايات المتحدة تحديًا كبيرًا في استعادة نفوذها الناعم، وبينما تعكس قرارات تقليص المساعدات رغبة بعض الساسة الأمريكيين في التركيز على الشؤون الداخلية، إلا أن التراجع عن المشهد العالمي قد تكون له عواقب وخيمة على المدى الطويل.
إذا أرادت واشنطن استعادة قوتها الناعمة، فإنها بحاجة إلى إعادة النظر في سياساتها المتعلقة بالمساعدات الخارجية، وإيجاد طرق جديدة لدعم المجتمعات المحتاجة دون المساس بمصالحها الوطنية.
هل انتهى عصر القوة الناعمة الأمريكية؟
لقد شكلت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أحد الأعمدة الأساسية للنفوذ الأمريكي لعقود طويلة، ومع تراجع دورها، فإن الولايات المتحدة تخاطر بفقدان تأثيرها في الساحة الدولية لصالح منافسين مثل الصين وروسيا.
يبقى السؤال مطروحًا: هل ستدرك واشنطن أن تقليص المساعدات ليس مجرد قرار إداري، بل هو خطوة قد تغير ميزان القوى العالمي؟ وهل ستتمكن من إعادة بناء قوتها الناعمة قبل فوات الأوان؟ الأوضاع الحالية تشير إلى أن الإجابة ليست مؤكدة بعد.