
أكد المؤشر العالمي للفتوى (GFI) التابع لـ دار الإفتاء المصرية والأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، تقريرًا بعنوان “الذكاء الاصطناعي وأثره في خدمة المجال الديني وصناعة الفتوى”، ومن خلال تحليل ما يقرب من 300 مادة (فتاوى وآراء ودراسات) حول الذكاء الاصطناعي في مختلف النطاقات الجغرافية، أوضح مؤشر الفتوى أنه رغم ظهور هذه الأدوات في عدد من المجالات واستخدامها في بعض الدول في صناعة الفتوى، وتأدية الشعائر الدينية، فإن نسبة الفتاوى المهتمة بتقنيات الذكاء الاصطناعي لا تزال قليلة مقارنة بفتاوى المجالات الأخرى، وقد يرجع ذلك إلى كونه لا يزال أحد المجالات غير الشائعة بالنسبة لكثير من المؤسسات الإفتائية، وعدم انتشار تقنيات الذكاء الاصطناعي في المجتمعات العربية بشكل واسع حتى الآن، وبالتالي قلة تعامل الناس مع مسائلها الأخلاقية والشرعية.
إعداد الأبحاث ووصف الجنة والنار ورسم ذوات الأرواح.. أبرز الفتاوى
وبتحليل أبرز الموضوعات والقضايا التي تناولتها الفتوى، أشار مؤشر الفتوى إلى أنها تدور حول ثلاث موضوعات رئيسية، جاء أولها حول بيان الأحكام الفقهية من الذكاء الاصطناعي، وحكم التركيبية الهيكلية للروبوت بنسبة (48%)، وجاء الثاني حول كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي والغرض منه بنسبة (37%)، أما الثالث تمثل في التكسب من تلك التقنيات بنسبة (15%).
وأكد مؤشر الفتوى أن (85%) من الفتاوى بشقيها الرسمي وغير الرسمي اتفقت على مشروعية الذكاء الاصطناعي بشكل عام؛ باعتباره علمًا من العلوم ما لم يتضمن محظورات شرعية أو يضر بالإنسان، إذ الأصل في الأشياء الإباحة والحِل ما لم يأت دليل على تحريمها، وأن تعميق الذكاء الاصطناعي وإنشاءه ليس فيه مشكلة، لكن البعد الأخلاقي أو الحرمة تكون في طريقة استعماله، ومن أبرز المتبنيين لهذا الرأي مفتي الجمهورية المصرية السابق الدكتور شوقي علام، ودائرة الإفتاء الأردنية، والداعية المصري خالد الجندي، ومفتي الجمهورية الأسبق وعضو هيئة كبار العلماء د. علي جمعة، وموقع إسلام ويب، فيما ذهب (15%) من الفتاوى إلى تحريم الذكاء الاصطناعي، ومن أبرز المتبنيين لذلك الرأي دار الإفتاء الكندية، وفتوى إيرانية لعليّ الحسينيّ الخامنئيّ، واعتمدت الفتاوى في أدلتها على أن صفة الخلق صفة من صفات الله تعالى، ووصف الذكاء الاصطناعي لا سيما “الروبوتات” بالتكنولوجيا الشيطانية التي تهدف إلى استبدال خلق الله تعالى.
وحول إشكالية المحاكاة ورسم ذوات الأرواح وتحريك صور الموتى، انقسمت الآراء والفتاوى إلى فريقين فريق يمثل الشريحة الأكبر، ويرى أن تحريك صور الموتى وكأنهم أحياء نوع من اللغو، وأن استعمال تقنية الحنين العميق Deep nostalgia، التي يقوم فيها الذكاء الاصطناعي بتحويل صور الأشخاص الثابتة إلى مقاطع فيديو قصيرة، والتحكم فيها بحيث يبتسم صاحب الصورة، ويغمز بعينه، ويومئ برأسه نوع من العبث تقوم عليه بعض الشركات، وقد يتطور مستقبلًا إلى ما هو أبعد من حركة العين والرأس، وقد يستعمل في السخرية والاستهزاء، والتزوير والتزييف للحقائق.
فيما رأى الفريق الآخر أنه ما دامت هذه الصور مأخوذة بالآلة (فوتوغرافية، أو رقمية) فهي مما يرخّص فيه كثير من أهل العلم المعاصرين، وتتأكّد الرخصة إذا كانت الصورة ناقصة الخِلْقَة نقصًا لا تمكن معه الحياة.
وعن وصف الجنة والنار وحور العين بتقنيات الذكاء الاصطناعي: وتحول الآيات القرآنية إلى مقاطع مصورة بواسطة تقنيات الذكاء الاصطناعي، أوضح الشيخ السعودي المقيم بالإمارات د. عزيز العنزي بأنه لا يجوز وصف الجنة والنار وحور العين بتقنيات الذكاء الاصطناعي؛ لأن ما ذكر في الجنة وما ذكر في النار يختلف اختلافاً كبيرًا عما هو في الدنيا؛ ولذلك تمثيل ما في الجنة بما في الدنيا هذا لا شك بأنه خطأ.
كما حذر عضو هيئة كبار العلماء سابقاً رئيس مجلس إدارة الجمعية الفقهية السعودية، الشيخ سعد بن تركي الخثلان، من ربط آيات الجنة أو النار بصور ووضعها في بعض وسائل التقنية الحديثة. قائلًا: إن ذلك لا يجوز وفيه نوع استخفاف بكتاب الله عز وجل لأن عالم الآخرة يختلف عن عالم الدنيا.
وعن إعداد الأبحاث والمقالات: بتقنية (chatgpt) أصدرت دائرة الإفتاء الأردنية فتوى تؤكد فيها أن الاستعانة بهذه التقنية وتوظيفها في مجال كتابة الأبحاث العلمية أو حل الواجبات المعطاة للطلبة يتوقف على نوع الجهد المبذول وينقسم إلى قسمين: أوّلاً: جهد أصليّ مقصود لذاته، وهو صياغة المعلومات، واستخلاص النتائج، وترتيب الأفكار، ومناقشة القضايا العالقة، وهذا النوع من الجهد لا يجوز للباحث إعداده عن طريق تقنية (chatgpt) ثانياً: جهد شكليّ يتمثل في البحث من خلال محركات البحث لجمع المعلومات والإحصائيات وجمع المصادر والتدقيق اللغوي… الخ، فلا حرج بالاستعانة بأي وسيلة من وسائل الذكاء الاصطناعي مما يعطي للبحث قوة، وأصالة علمية.
“السعودية” الأكثر تناولًا للذكاء الاصطناعي وصناعة الفتوى
وعن أبرز الدول الأكثر تناولًا للذكاء الاصطناعي وصناعة الفتوى، أكد المؤشر العالمي للفتوى أن المملكة العربية السعودية جاءت في الصدارة بنسبة (35%) من إجمالي قائمة أكثر 5 دول استخدامًا وحديثًا عن الذكاء الاصطناعي والفتوى، ويرجع ذلك إلى استخدامها للروبوتات في العديد من الأمور المتعلقة بتنظيم الحج والعمرة، فرأينا “الروبوت المفتي” و”الروبوت التوجيهي” الذي يرشد الزوار والمعتمرين لأداء المناسك، وروبوت يوزع المصاحف على الحجاج، وإطلاق بوابة افتراضية لزيارة المسجد النبوي عن بُعد.. وغيرها، هذا بالإضافة إلى انتشار عدد من الفتاوى حول قضايا وموضوعات ترتبط باستخدام الذكاء الاصطناعي مثل حكم استخدامه في رؤية الهلال، وحكم رسم صور ذوات الأرواح عن طريق الذكاء الاصطناعي، واستخدام مغرد سعودي لتقنيات الذكاء الاصطناعي في رسم “بقرة” بني إسرائيل وغيرها.
وتابع مؤشر الفتوى في تقريره أن الإمارات جاءت في المرتبة الثانية بنسبة (28%)، ويرجع ذلك إلى سبقها في إصدار روبوتات الفتوى منذ العام 2016، فضلاً عن محاولة استحداث تقنية صناعية لتسهيل فريضة الزكاة، وكانت أول مــن أطلق توثيــق عقــد الزواج بواسـطة تقنيـات الـذكاء الاصطناعي، كما أطلقت إمكانية الاستفسار عن فتوى عبر المجيب الذكي من خلال خدمة “فتوى شات بوت” على الموقع الإلكتروني الرسمي لمجلس الإمارات للإفتاء الشرعي.
نقاط القوة والضعف”
وبتحليل مؤشر الفتوى لأبرز تأثيرات الذكاء الاصطناعي على المجال الإفتائي من خلال التحليل الرباعي، أكد أن دخول الذكاء الاصطناعي في العمل الإفتائي قادم لا محالة، ولكنه يظل بحاجة إلى تدخل وإشراف بشري لضمان توافق الفتاوى مع الأحكام الشرعية الصحيحة والسياقات الدينية والثقافية من خلال عمليتي التصوير والتكييف البشريتين، وذهب إلى تضمن ذلك المجال لعدد من نقاط القوة والضعف، ويتمثل أبرز نقاط القوة في إمكانية الاستفادة به في تحسين الأداء والعملية الإنتاجية الإفتائية، وتطوير وتحسين تطبيقات التعلم الديني الإلكتروني، والترجمة الآلية للنصوص الدينية، وتحليل القرآن وتفسيره من خلال تقنيات معالجة اللغة الطبيعية، وتطوير الخوارزميات لتحليل البنية اللغوية والنحو والعلاقات الدلالية في الآيات القرآنية وكشف المعاني، كما يمكن أن يسهم في توسيع نطاق الفتوى وتشعب موضوعاتها ومجالاتها والقضايا التي ترتبط بها، لتضم عددًا كبيرًا من الأحداث والقضايا الجديدة والمعقدة داخل المجتمعات وكشف علاقتها بالفتوى وكيفية التعامل معها.
أما عن نقاط الضعف، لخصها المؤشر العالمي للفتوى في احتمالية المساهمة في انتشار السطحية والأمية الفكرية والدينية، والانفصال الفكري والروحي، نتيجة غياب التفاعل بين المفتي والمستفتي مما سيؤدي لغياب التفاعل الحي وبالتالي الانفصال الفكري والمشاعري وعدم إصدار الفتاوى الدقيقة التي تتلاءم مع حال المستفتي والظروف المحيطة، فأخذ العلم لا بد أن يكون على يد شيخ عالم، فضلًا عن احتمالية التأثير السلبي في تراجع الذهاب لدور العبادة، وسهولة تعرض تلك الآلات للاختراق من قبل أصحاب الرؤى غير المنضبطة والتنظيمات المتطرفة، والتبعية وعدم الاعتماد على الاجتهاد والبحث والدراسة، وأيضاً تنوع الثقافات بين مؤسسي تلك التقنيات والمجتمعات المسلمة قد يتسبب في عدد من الإشكاليات الأخلاقية وتحريف المعنى والتحيز وعدم فهم السياق الكامل، وإغفال العوامل الاجتماعية والنفسية للمستفتين، وعدم مراعاة القواعد الأصولية في الفتوى، واحتمالية المساهمة في انتشار “فوضى الفتاوى”.
تساؤلات وإشكاليات
وطرح المؤشر العالمي للفتوى في تقريره عددًا من التساؤلات والإشكاليات التي تحتاج إلى دراسة وتحليل ومن أبرزها كيف ستتعامل الروبوتات مع الأسئلة التي تحمل فتاوى متضاربة؟ وهل ستراعي الروبوتات الزمان والمكان وفقه الواقع؟
وهل ستمر الفتوى عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي بمراحلها الأربعة من (تصوير – وتكييف – ومرحلة بيان الحكم – ثم مرحلة الإفتاء؟) كيف ستتعامل الروبوتات مع الفتاوى المتطرفة التي تغزو مواقع السوشيال ميديا؟
وهل ستراعي فتوى الذكاء الاصطناعي اختلاف النطاقات الجغرافية؟ وهل ستقوم التنظيمات الإرهابية باستغلال تلك التقنيات وتحويل هجماتها إلى وسائل إلكترونية ذكية؟ وهل ستزيد نسبة المعلومات والفتاوى المغلوطة والأخبار الزائفة والشائعات؟ وهل سيصبح للذكاء الاصطناعي قدرة على الفهم والتفسير الدقيق للفتاوى؟ وهل سيراعي الذكاء الاصطناعي الإشكاليات الأخلاقية واختلاف الثقافات عند عرض الفتاوى؟ كل هذه التساؤلات يطرحها مؤشر الفتوى للبحث لها عن إجابة.
“الروبوت الحامل” و”تكوين صداقات مع الروبوتات”.. قضايا استشرافية يطرحها مؤشر الفتوى للبحث والدراسة
قدَّم المؤشر العالمي للفتوى في نهاية تقريره نظرة استشرافية لبعض فتاوى وقضايا الذكاء الاصطناعي؛ لمحاولة البحث والتأصيل والإجابة عنها من جانب المؤسسات الإفتائية، ومن أبرزها ما الآثار الشرعية المترتبة على العقود والاتفاقيات غير القانونية والمزورة باستخدام الذكاء الاصطناعي؟ انتشر الحديث مؤخرًا عن إصدار ما يسمى بـ “الروبوت الحامل”، فما حكمه وهل سيأخذ حكم الرحم الصناعي أم سيكون له أحكام مختلفة؟ وهل يمكن الاعتماد على الأنظمة الذكية في اتخاذ قرارات طبية حساسة، مثل تشخيص الأمراض أو اتخاذ قرارات في حالات الطوارئ؟ وما حكم استخدام الذكاء الاصطناعي في تحسين النسل أو تحديد نوعه أو لونه وما شابه؟ كما طرح مؤشر الفتوى تساؤلات حول ما حكم تكوين الأفراد لصداقات مع الروبوتات الآلية والدردشة معهم؟ وما حكم الانتقال إلى العالم الافتراضي وخلق حياة جديدة مختلفة عن الواقع عبر تلك التقنيات؟ … وغيرها الكثير.
واختتم مؤشر الفتوى تقريره بالتأكيد على أن أي تقنية جديدة تُعد سلاحًا ذا حدين وتتوقف مدى فائدتها على طريقة استخدامها، مشددًا على ضرورة الابتعاد عن استغلالها في عمليات الكذب والتزوير والغش، واستغلالها في التعلم واكتساب المهارات بما يعود بالنفع على الإنسان ومجتمعه، الأمر الذي يؤكد على ضرورة بذل المؤسسات الإفتائية الرسمية في مختلف الدول المزيد من الجهد لمواكبة تطورات العصر، بل والمسارعة إلى ابتكار أدوات وتقنيات للذكاء الاصطناعي يقوم على برمجتها المتخصصون في مجال الفتوى المنتمون لتلك المؤسسات الرسمية، وذلك بمساعدة المبرمجين وخبراء التقنية حتى يتم برمجتها بالشكل الذي يضمن الحفاظ على الهوية الإسلامية وإصدار الأحكام الشرعية الصحيحة وخلو تلك التقنيات من أي نزعات عنصرية أو متطرفة تسيء لتعاليم الإسلام الحنيف ومبادئه السمحة.